فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وَيَجْعَلُونَ}.
قيل معطوف على {يُشْرِكُونَ} [النحل: 54]، وليس بشيء، وقيل: لعله عطف على ما سبق بحسب المعنى تعدادًا لجناياتهم أي يفعلون مما قص عليك ويجعلون {لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} أي لآلهتهم التي لا يعلمون أحوالها وأنها لا تضر ولا تنفع على أن {مَا} موصولة والعائد محذوف وضمير الجمع للكفار أو لآلهتهم التي لا علم لها بشيء لأنها جماد على أن {ما} موصولة أيضًا عبارة عن الآلهة، وضمير {يَعْلَمُونَ} عائد عليه، ومفعول {يَعْلَمُونَ} مترك لقصد العموم، وجوز أن ينزل منزلة اللازم أي ليس من شأنهم العلم، وصيغة جمع العقلاء لوصفهم الآلهة بصفاتهم، ويجوز أن تكون {مَا} مصدرية وضمير الجمع للمشركين واللام تعليلة لا صلة الجعل كام في الوجهين الأولين، وصلته محذوفة للعلم بها أي يجعلون لآلهتهم لأجل جعلهم {نَصِيبًا مّمّا رزقناهم} من الحرث والأنعام وغيرهما مما ذرأ تقربا إليها {تالله لَتُسْئَلُنَّ} سؤال توبيخ وتقريع في الآخرة، وقيل: عند عذاب القبر، وقيل: عند القرب من الموت {عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} من قبل بأنها آلهة حقيقة بأن يتقرب إليها، وفيتصدير الجملة بالقسم وصرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب المنبىء عن كمال الغضب من شدة الوعيد ما لا يخفى.
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات} هم خزاعة وكنانة كانوا يقولون: الملائكة بنات الله تعالى وكأنهم لجهلهم زعموا تأنيثها وبنوتها، وقال الإمام: أظن أنهم أطلقوا عليها البنات لاستتارها عن العيون كالنساء؛ ولهذا لما كان قرص الشمس يجري مجرى المستتر عن العيون بسبب ضوئه الباهر ونوره القاهر أطلقوا عليه لفظ التأنيث.
ولا يرد على ذلك أن الجن كذلك لأنه لا يلزم في مثله الاطراد، وقيل: أطلقوا عليها ذلك للاستتار مع كونها في محل لا تصل إليه الأغبار فهي كبنات الرجل اللاتي يغار عليهن فيسكنهن في محل أمين ومكان مكين، والجن وإن كانوا مستترين لكن لا على هذه الصورة، وهذا أولى مما ذكره الإمام، وإما عدم التوالد فلا يناسب ذلك.
{سبحانه} تنزيه وتقديس له تعالى شأنه عن مضمون قولهم ذلك أو تعجيب من جراءتهم على التفوه بمثل تلك العظيمة، وهو في المعنى الأول حقيقة وفي الثاني مجاز.
{وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} يعني البنين و{مَا} مرفوع المحل على أنه مبتدأ والظرف المقدم خبره والجملة حالية وسبحانه اعتراض في حاق موقعه؛ وجوز الفراء.
والحوفي أنه في محل نصب معطوف على {البنات} كأنه قيل: ويجعلون لهم ما يشتهون.
واعترض عليه الزجاج وغيره بأنه مخالف للقاعدة النحوية وهي أنه لا يجوز تعدي فعل المضمر المتصل المرفوع بالفاعلية وكذا الظاهر إلى ضميره المتصل سواء كان تعديه بنفسه أو بحرف الجر إلا في باب ظن وما ألحق به من فقد وعدم فلا يجوز زيد ضربه بمعنى ضرب نفسه ولا زيد مر به أن مر هو بنفسه ويجوز زيد ظنه قائمًا وزيد فقده وعدمه فلو كان مكان الضمير إسمًا ظاهرًا كالنفس نحو زيد ضرب نفسه أو ضميرًا منفصلًا نحو زيد ما ضرب إلا إياه وما ضرب زيد إلا إياه جاز، فإذا عطف {مَا} على {البنات} أدى إلى تعدية فعل المضمر المتصل وهو واو {يَجْعَلُونَ} إلى ضميره المتصل وهو {هُمْ} المجرور باللام في غير ما استثنى وهو ممنوع عند البصريين ضعيف عند غيرهم فكان حقه أن يقال لأنفسهم وأجيب بأن الممتنع إنما هو تعدي الفعل بمعنى وقوعه عليه أو على ما جر بالحرف نحو زيد مر به فإن المرور واقع بزيد وما نحن فيه ليس من هذا القبيل فإن الجعل ليس واقعًا بالجاعلين بل بما يشتهون، ومحصله كما قال الخفاجي المنع في المتعدي بنفسه مطلقًا والتفصيل في المتعدي بالحرف بين ما قصد الإيقاع عليه وغيره فيمتنع في الأول دون الثاني لعدم ألف إيقاع المرء بنفسه.
وأبو حيان اعترض القاعدة بقوله تعالى: {وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة} [مريم: 25]. {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} [القصص: 32]، والعلامة البيضاوي أجاب بوجه آخر وهو أن الامتناع إنما هو إذا تعدى الفعل أولًا لا ثانيًا وتبعًا فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع، ومنهم من خص ذلك بالمتعدي بنفسه وجوز في المتعدي بالحرف كما هنا وارتضاه الشاطبي في شرح الألفية، وقال الخفاجي: هو قوي عندي لكن لا يخفى أن العطف هنا بعد هذا القيل والقال يؤدي إلى جعل الجعل بمعنى يعم الزعم والاختيار.
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى} أي أخبر بولادتها، واصل البشارة الأخبار بما يسر لكن لما كانت ولادة الأنثى تسوءهم حملت على مطلق الأخبار، وجوز أن يكون ذلك بشارة باعتبار الولادة بقطع النظر عن كونها أنثى وقيل: إنه بشارة حقيقة بالنظر إلى حال المبشر به في نفس الأمر، وأيامًا كان فالكلام على تقدير مضاف كما أشرنا إليه {ظَلَّ وَجْهُهُ} أي صار {مُسْوَدّا} من الكآبة والحياء من الناس، وأصل معنى ظل أقام نهارًا على الصفة التي تسند إلى الاسم، ولما كان التبشير قد يكون في الليل وقد يكون في النهار فسر بما ذكر وقد تلحظ الحالة الغالبة بناء على أن أكثر الولادات يكون بالليل ويتأخر اخبار المولود له إلى النهار خصوصًا بالأنثى فيكون ظلوله على ذلك الوصف طول النهار واسوداد الوجه كناية عن العبوس والغم والفكر والنفرة التي لحقته بولادة الأنثى، قيل: إذا قوى الفرح انبسط روح القلب من داخله ووصل إلى الأطراف لاسيما إلى الوجه لما بين القلب والدماغ من التعلق الشديد فيرى الوجه مشرقًا متلألئًا، وإذا قوى الغم انحصر الروح إلى باطن القلب ولم يبق له أثر قوي في ظاهر الوجه فيربد ويتغير ويصفر ويسود ويظهر فيه أثر الأرضية، فمن لوازم الفرح استنارة الوجه وإشراقه ومن لوازم الغم والحزن اربداده واسوداده فلذلك كنى عن الفرح بالاستنارة وعن الغم بالاسوداد، ولو قيل بالمجاز لم يبعد بل قال بعضهم: {أَنَّهُ} والظاهر أن {يُسْلِمْ وَجْهَهُ} اسم ظل {ومسودا} خبره، وجوز كون الاسم ضمير الأحد ووجهه بدلًا منه ولو رفع {وَجْهُهُ مُسْوَدّا} على أن {وَجْهَهُ} مبتدأ وهو خبر له والجملة خبر {ظِلّ} صح لكنه لم يقرأ بذلك هنا {وَهُوَ كَظِيمٌ} أي مملوء غيظًا وأصل الكظم مخرج النفس يقال: أخذ بكظمه إذا أخذ بمخرج نفسه، ومنه كظم الغيظ لا خفائه وحبسه عن الوصول إلى مخرجه.
وفعل اما بمعنى مفعول كما أشير إليه أو صيغة مبالغة، والظاهر أن ذلك الغيظ على المرأة حيث ولدت أنثى ولم تلد ذكرًا، ويؤيده ما روي الأصمعي أن امرأة ولدت بنتًا سمتها الذلقاء فهجرها زوجها فانشدت:
ما لأبي الذلقاء لا يأتينا ** يظل في البيت الذي يلينا

يحرد أن لا نلد البنينا ** وإنما نأخذ ما يعطينا

والفقير قد رأيت من طلق زوجته لأن ولدت أنثى، والجملة في موضع الحال من الضمير في {ظِلّ} وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من وجه، وجوز غيره أيضًا حاليته من ضمير {مُسْوَدّا}.
{يتوارى مِنَ القوم} يستخفي من قومه {مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ} عرفًا وهو الأنثى، والتعبير عنها بما لإسقاطها بزعمهم عن درجة العقلاء، والجملة مستأنفة أو حال على الأوجه السابقة في {وهو كظيم} [النحل: 58]. إلا كونه من وجهه، والجاران متعلقان بيتوارى و{مِنْ} الأولى ابتدائية، والثانية تعليلية أي يتوارى من أجل ذلك، ويروى أن بعض الجاهلية يتوارى في حال الطلق فإن أخبر بذكر ابتهج أو بأنثى حزن وبقي متواريًا أيًا ما يدبر فيها ما صنع {أَيُمْسِكُهُ} أيتركه ويربيه {على هُونٍ} أي ذل، والجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل ولذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: معناه أيمسكه مع رضاه بهوان نفسه وعلى رغم أنفه، وقيل: حال من المفعول به أي أيمسك المبشر به وهو الأنثى مهانًا ذليلًا، وجملة {أَيُمْسِكُهُ} معمولة لمحذوف معلق بالاستفهام عنها وقع حالًا من فاعل {يتوارى} أي محدثًا نفسه متفكرًا في أن يتركه {أَمْ يَدُسُّهُ} يخفيه {فِى التراب} والمراد يئده ويدفنه حيًا حتى يموت وإلى هذا ذهب السدي وقتادة وابن جريج وغيرهم، وقيل: المراد إهلاكه سواء كان بالدفن حيًا أم بأمر آخر فقد كان بعضهم يلقى الأنثى من شاهق.
روي أن رجلًا قال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما أجد حلاوة الإسلام منذ أسلمت، وقد كانت لي في الجاهلية بنت وأمرت امرأتي أن تزينها وأخرجتها فلما انتهيت إلى واد بعيد القعر ألقيتها فقالت يا أبت قتلتني فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء فقال صلى الله عليه وسلم: «ما في الجاهلية فقد هدمه الإسلام وما في الإسلام يهدمه الاستغفار» وكان بعضهم يغرقها، وبعضهم يذبحها إلى غير ذلك، ولما كان الكل إماتة تفضي إلى الدفن في التراب قيل: {أَمْ يَدُسُّهُ في التراب} وقيل: المراد إخفاؤه عن الناس حتى لا يعرف كالمدسوس في التراب، وتذكير الضميرين للفظ {مَا}.
وقرأ الجحدري بالتأنيث فيهما عودًا على قوله سبحانه: {بالأنثى} أو على معنى {مَا}.
وقرئ بتذكير الأول وتأنيث الثاني، وقرأ الجحدري أيضًا، وعيسى {هوان} بفتح الهاء وألف بعد الواو، وقرئ {أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ} بفتح الهاء وإسكان الواو وهو بمعنى الذل أيضًا، ويكون بمعنى الرفق واللين وليس بمراد، وقرأ الاعمش: {على سُوء} وهي عند أبي حيان تفسير لا قراءة لمخالفتها السواد {أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} حيث يجعلون لمن تنزه عن الصاحبة والولد ما هذا شأنه عندهم والحال أنهم يتحاشون عنه ويختارون لأنفسهم البنين، فمدار الخطأ جعلهم ذلك لله تعالى شأنه مع إبائهم إياه لا جعلهم البنين لأنفسهم ولا عدم جعلهم له سبحانه، وجوز أن يكون مداره التعكيس كقوله تعالى: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضيزى} [النجم: 22]، وقال ابن عطية: هذا استقباح منه تعالى شأنه لسوء فعلهم وحكمهم في بناتهم بالإمساك على هون أو الوأد مع أن رزق الجميع على الله سبحانه فكأنه قيل: الا ساء ما يحكمون في بناتهم وهو خلاف الظاهر جدًا، وروى الأول عن السدي وعليه الجمهور.
والآية ظاهرة في ذم من يحزن إذا بشر بالأنثى حيث أخبرت أن ذلك فعل الكفرة، وقد أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال في قوله سبحانه: {وَإِذَا بُشّرَ} إلخ. هذا صنيع مشركي العرب أخبركم الله تعالى بخبثه فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله تعالى له وقضاء الله تعالى خير من قضاء المرء لنفسه، ولعمري ما ندري أي خير لرب جارية خير لأهلها من غلام، وإنما أخبركم الله عز وجل بصنيعهم لتجتنبوه ولتنتهوا عنه.
واستدل القاضي بالآية على بطلان مذهب القائلين بنسبة أفعال العباد إليه تعالى لأن في ذلك إضافة فواحش لو أضيفت إلى أحدهم أجهد نفسه في البراءة منها والتباعد عنها قال: فحكم هؤلاء القائلين مشابه لحكم هؤلاء المشركين بل أعظم لأن إضافة البنات إليه سبحاهه إضافة لقبيح واحد وهو أسهل من إضافة كل القبائح والفواحش إليه عز وجل.
وأجيب عن ذلك أنه بما ثبت بالدليل استحالة الصاحبة والولد عليه سبحانه أردفه عز وجل بذكر هذا الوجه الإقناعي وإلا فليس كل ما قبح منا في العرف قبح منه تعالى، ألا ترى أن رجلًا لو زين إماءه وعبيده وبالغ في تحسين صورهم وصورهن ثم بالغ في تقوية الشهوة فيهم وفيهن ثم جمع بين الكل وأزال الحائل والمانع وبقي ينظر ما يحدث بينهم من الوقاع وغيره عد من أسفه السفهاء وعد صنيعه أقبح كل صنيع مع أن ذلك لا يقبح منه تعالى بل قد صنعه جل جلاله فعلم أن التعويل على مثل هذه الوجوه المبنية على العرف إنما يحسن إذا كانت مسبوقة بالدلائلة القطعية، وقد ثبت بها امتناع الولد عليه سبحانه فلا جرم حسنت تقويتها لهذه الوجوه الإقناعية، وأما أفعال العباد فقد ثبت بالدلائل القاطعة أن خالقها هو الله تعالى فكيف يمكن إلحاق أحد البابين بالآخر لولا سوء التعصب. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)}.
في ضمير الفاعل في قوله: {لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} وجهان:
أحدهما- أنه عائد إلى الكفار. أي ويجعل الكفار للأصنام التي لا يعلمون أن الله أمر بعبادتها، ولا يعلمون أنها تنفع عابدها أو تضر عاصيها- نصيبًا إلخ. كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} [الحج: 71]، ونحو ذلك من الآيات.
وقال صاحب الكشاف: ومعنى كونهم لا يعلمونها: أنهم يسمونها آلهة، ويعتقدون فيها أنها تضر وتنفع، وتشفع عند الله، وليس كذلك! وحقيقتها أنها جماد، لا يضر ولا ينفع. فهم إذًا جاهلون بها.
الوجه الثاني: أن واو {يعملون} واقعة على الأصنام. فهي جماد لا يعلم شيئًا. اي يجعلون للأصنام الذين لا يعلمون شيئًا لكونهم جمادًا- نصيبًا إلخ، وهذا الوجه كقوله: {أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 21]، وقوله: {فكفى بالله شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [يونس: 29]، وقوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ} [الأعراف: 195]. الآية، إلى غير ذلك من الآيات، وعلى هذا القول- فالواو راجعة إلى {ما} من قوله: {لما لا يعلمون}، وعبر عنهم ب {ما} التي هي لغير العاقل. لأن تلك المعبودات التي جعلوا لها من رزق الله نصيبًا جماد لا تعقل شيئًا، وعبر بالواو في {لا يعلمون} على هذا القول لتنزيل الكفار لها منزلة العقلاء في زعمهم أنها تشفع، وتضر وتنفع.
وإذا عرفت ذلك- فاعلم أن هذا المعنى المذكور في هذه الآية الكريمة بينه تعالى في غير هذا الموضع. كقوله: {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَمِنَ الحرث والأنعام نَصِيبًا فَقَالُواْ هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إلى الله وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136]، وذلك أن الكفار كانوا إذا حرثوا حرثًان أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منها جزءًا، وللوثن جزءًا. فما جعلوا من نصيب الأوثان حفظوه، وإن اختلط به شيء مما جعلوه لله ردوه إلى نصيب الأصنام، وإن وقع شيء مما جعلوه لله في نصيب الأصنام تركوه فيه، وقالوا: الله غني والصنم فقير، وقد اقسم جل وعلا: على أنه يسألهم يوم القيامة عن هذا الافتراء والكذب! وهو زعمهم أن نصيبًا مما خلق الله للأوثان التي لا تنفع ولا تضر في قوله: {تالله لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} وهو سؤال توبيخ وتقريع.
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)}.
قوله: {وَيَجْعَلُونَ} أي يعتقدون. ذكر جلو علا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار يعتقدون أن لله بنات إناثًا، وذلك أن خزاعة وكنانة كانوا يقولون: الملائكة بنات الله. كما بينه تعالى بقوله: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثًا} [الزخرف: 19]. الآية. فزعموا لله الأولاد! ومع ذلك زعموا له أخس الولدين وهو الأنثى، فالإناث التي جعلوها له يكرهونها لأنفسهم ويأنفون منها كما قال تعالى عنهم: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} لأن شدة الحزن والكآبة تسود لون الوجه {وَهُوَ كَظِيمٌ} أي ممتلىء حزنًا وهو ساكت، وقيل ممتلىء غيظًا على امرأت التي ولدت له الأنثى. {يتوارى مِنَ القوم مِن سواء مَا بُشِّرَ بِهِ} أي يختفي من أصحابه من أجل سوء ما بشر به لئلا يروا ما هو فيه من الحزن والكآبة. أو لئلا يشمتوا به ويعيرونه، ويحدث نفسه وينظر: {أَيُمْسِكُهُ}، أي ما بشر به وهو الأنثى {على هُونٍُ} أي هوان وذل. {أَمْ يَدُسُّه} في التراب: أي يدفن المذكور الذي هو الأنثى حيًا في التراب، يعني ما كانوا يفعلون بالبنات من الوأد وهو دفن البنت حية، كما قال تعالى: {وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8-9].
وأوضح جل وعلا هذه المعاني المذكورة في هذه الآيات في مواضع خر، فبين أن جعلهم الإناث لله، أو الذكور لأنفسهم قسمة غير عادلة، وأنها من أعظم الباطل.
وبين أنه لو كان متخذًا ولدًا سبحانه وتعالى عن ذلك! لاصطفى أحسن النصيبين، ووبخهم على أم جعلوا له أخس الولدين، وبين كذبهم في ذلك، وشدة عظم ما نسبوه إليه. كل هذا ذكره في مواضع متعددة. كقوله: {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضيزى} [النجم: 21-22]، وقوله: {أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى البنات على البنين مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات: 151-154]، وقوله: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملائكة إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء: 40]، وقوله: {أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بالبنين} [الزخرف: 16]، وقوله: {لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ الله الواحد القهار} [الزمر: 4]، وقوله: {أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون} [الطور: 39]، وقال جل وعلا: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل: 62]، وقال: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18]، وقال: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف: 17].
وبين شدة عظم هذا الافتراء بقوله: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدًّا أَن دَعَوْا للرحمن وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْدًا} [مريم: 88-93]، وقوله: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء: 40]. إلى غير ذلك من الآيات، وقوله في هذه الآية {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} مبتدأ وخبر وذكر الزمخشري والفراء وغيرهماك أنه يجوز أن تكون {ما} في محل نص عطفًا على {البنات} أي ويجعلون لله البنات، ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون.
ورد إعرابه بالنصب الزجاج، وقال: العرب تستعمل في مثل هذا ويجعلون لأنفسهم. قاله القرطبي، وقال أبو حيان في البحر المحيط. قال الزمخشري: ويجوز في {ما} فيما يشتهون الرفع على الابتداء، والنصب على أن يكون معطوفًا على {البنات} أي وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور. انتهى، وهذا الذي أجازه من النصب تبع فيه الفراء والحوفي وقال أبو البقاء وقد حكاه: وفيه نظر، وذهل هؤلاء عن قاعدة في النحو: وهي أن الفعل الرافع لضمير الاسم المتصل لا يتعدى إلى ضميره المتصل. فلا يجوز: زيد ضربه، أي زيدًا. تريد ضرب نفسه. إلا في باب ظن وأخواتها من الأفعال القلبية، أو فقد وعدم. فيجوز: زيد ظنه قائمًا، وزيد فقدهن وزيد عدمه، والضمير المجرور بالحرف كالمنصوب المتصل. فلا يجوز: زيد غضب عليه، تريد غضب على نفسه. فعلى هذا الذي تقرر لا يجوز النصب. إذ يكون التقدير: ويجعلون لهم ما يشتهون. فالواو ضمير مرفوع {ولهم} مجرور باللام. فهو نظير بما يسوء قوله هنا: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى} الآية، ونظيره قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21]، ونحو ذلك من الآيات.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من بغضهم للبنات مشهور معروف في أشعارهم، ولما خطبت إلى عقيل بن غفلة المري ابنته الجرباء قال:
إني وإن سيق إلى المهر ** ألف وعبدان وذود عشر

أحب أصهاري إلى القبر

ويروى لعبد الله بن طاهر قوله:
لكل أبي بنت يراعى شؤونها ** ثلاثة أصهار إذا حمد الصهر

فبعل يراعيها وخدر يكنها ** وقبر يواريها وخيرهم القبر

وهم يزعمون أن موجب رغبتهم في موتهن، وشدة كراهيتهم لولادتهن: الخوف من العار، وتزوج غير الأكفاء، وأن تهان بناتهم بعد موتهم. كما قال الشاعر في ابنة له تسمى مودة:
مودة تهوى عمر الشيخ يسره ** لها الموت قبل الليل لو أنها تدري

يخاف عليها جفوة الناس بعده ** ولا ختن يرجى أود من القبر

اهـ.